أخبار عاجلة

د. محمد فؤاد يكتب: رسوم ترامب.. هندسة الاقتصاد العالمي على المقاس الأمريكي (2)

د. محمد فؤاد يكتب: رسوم ترامب.. هندسة الاقتصاد العالمي على المقاس الأمريكي (2)
د. محمد فؤاد يكتب: رسوم ترامب.. هندسة الاقتصاد العالمي على المقاس الأمريكي (2)

في المقال السابق "ميران: العقل الاقتصادي وراء ترامب – ما وراء الرسوم الجمركية؟"، حاولت التعمق في "عقل ترامب"، واستكشاف الخلفية الأيديولوجية التي وقفت خلف قراراته الجمركية الصاخبة، خاصة وأن تلك القرارات لم تكن مجرد نزوات سياسية أو ردود فعل عشوائية، بل جزء من رؤية اقتصادية متكاملة قد تولّى صياغتها نخبة محدودة من مستشاريه، يتصدرهم "ستيفن إيرا ميران" المسؤول السابق في وزارة الخزانة والرئيس الحالي لمجلس المستشارين الاقتصاديين، بوصفه عرّاب تلك التحولات.

تناولت خلال المقال الأول، تشريح "ميران" لأزمات النظام النقدي العالمي و"معضلة تريفين"، وربطه بين قوة الدولار وتراجع الصناعة الأميركية، ليبرز الرجل بصفته القوة الفكرية وراء إحياء حديث للفكر التجاري الحمائي، وليستقر على سياسة التعريفات كأداة يهدف بها -في تقديره- لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وعودته إلى الصدارة.

ومع تصريحات ميران الأخيرة في معهد هدسون، قد اتضحت آلياته لتوسيع هذه الرؤية، واضعًا الأساس لما قد يكون أهم إعادة اصطفاف في الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، وبوادر مشروع شامل لإعادة هندسة النظام الاقتصادي العالمي على المقاس الأميركي الجديد، خاصة وأن حديثه لم يكن مجرد شرح نظري، بل إعلان صريح عن خطوات تنفيذية لتوسيع رؤيته التي بدا أنها لا تتعلق فقط بالرسوم الجمركية بل يتعلق بإعادة تعريف دور أمريكا في النظام الاقتصادي العالمي من مانح غير متكافئ إلى وسيط استراتيجي.

في كلمته الأخيرة بمعهد هدسون، جادل ميران بأن الولايات المتحدة لطالما تحملت عبء توفير "السلع العامة العالمية" من أمن عسكري عالمي، إلى عملة احتياطية مستقرة ونظام مالي منظم،دون أن تتلقى مقابلًا عادلًا من حلفائها وشركائها التجاريين، ومن خلال تسليط الضوء على هذا الخلل المزمن، يعيد ميران تعريف الرسوم الجمركية، ليس كعقوبات تجارية، بل كأدوات تصحيح هيكلي تهدف إلى معالجة بيئة اقتصادية عالمية استفادت من المظلة الأمريكية دون أن تسهم في تكاليفها.

ووفقًا لرؤيته، فإن دور الدولار كعملة احتياطية يؤدي إلى تدفق ضخم للأموال الأجنبية نحو الأصول الأمريكية، ما يؤدي إلى رفع قيمة العملة، ويُفقد الصادرات الأمريكية قدرتها التنافسية، ويدفع الاقتصاد نحو عجز تجاري مزمن وتآكل في القاعدة الصناعية، وجمود في الأجور.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهو لا يدعو فقط إلى إصلاح تجاري، بل إلى مراجعة شاملة للصفقة الاقتصادية العالمية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، فالولايات المتحدة لم يعد ينبغي أن تكون "مرساة سلبية للنظام العالمي"، بل على الحلفاء أن يشاركوا في التكاليف سواء عبر تمويل الدفاع، أو المساهمة في الاستثمارات الصناعية، أو حتى تقديم تعويضات مالية مباشرة.

ويشبه هذا التوجه بروح اتفاق "بلازا" 1985، ولكن بطموحات أشمل، حتى أن البعض يصفه بـ"اتفاق مار-آ-لاغو"، كناية عن إعادة تنسيق كبرى في الحوكمة الاقتصادية العالمية، لا تقتصر على إعادة ضبط سعر الصرف، بل ترتكز على مبدأ المعاملة بالمثل.

ورغم الانتقادات التي تتهم هذا النهج بـ"الحمائية"، إلا أن ميران يقدم رؤية أكثر واقعية وتعقيدًا تقوم على أن الرسوم الجمركية هنا ليست حواجز انعزالية، بل أوراق تفاوض حاسمة، فبدلًا من الانسحاب من الأسواق الأمريكي، يجب استغلال النفوذ الكامن في السوق الأمريكية كأداة ضغط لإعادة تشكيل قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية.

إذن.. تتبلور رؤية ميران للسياسة الاقتصادية الأمريكية ضمن إطار ثلاثي يُشكّل ملامح عقيدة جديدة تعيد تعريف دور الولايات المتحدة في النظام العالمي، فلم تعد الرسوم الجمركية تُقدَّم بوصفها مجرد ردود أفعال طارئة على اختلالات السوق أو المنافسة غير العادلة، بل بات يُنظر إليها كأدوات استراتيجية تستهدف تصحيح التشوهات البنيوية الناتجة عن استمرار ارتفاع قيمة الدولار، وما ترتب عليه من ضعف في تنافسية الصادرات الأميركية، بالإضافة إلى إنهاء حالة "الركوب المجاني" التي سمحت للعديد من الدول بالاستفادة من المظلة الاقتصادية والأمنية الأمريكية دون تقديم مقابل فعلي.

وفي الوقت نفسه، يعاد تأطير الدور القيادي العالمي للولايات المتحدة بوصفه "خدمة استراتيجية" تقدمها للعالم، لكنها ليست منحة مجانية، بل ينبغي أن تقابل بتحمل الشركاء الدوليين لنصيبهم العادل من الكلفة، سواء في ملفات الدفاع أو في دعم البنية الاقتصادية العالمية، ومن هنا، تصبح محاسبة السلع العامة التي توفرها أمريكا جزءًا من رؤية أوسع لإعادة توزيع المسؤوليات والتكاليف على مستوى العلاقات الدولية.

أما على صعيد البنية الأعمق لهذه العلاقات، فإن ميران يدعو إلى بناء نموذج جديد يقوم على المعاملة بالمثل، بحيث تُبنى التحالفات سواء العسكرية أو الاقتصادية على أسس من الالتزام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على إرث التحالفات القديمة التي تفرض على الولايات المتحدة أن تمنح امتيازات بلا شروط.

وتمثل هذه المرتكزات الثلاث معًا نواة لتحول أكبر في النظرة الأمريكية لدورها العالمي، بحيث يسعى ذلك لاستعادة السيادة الاقتصادية، وإعادة رسم حدود الانخراط الأميركي في النظام الدولي، عبر مقاربة جديدة تقوم على التوازن والتكافؤ، بعيدًا عن نموذج الرعاية المفتوحة الذي لم يعد يخدم المصالح الأميركية بل يضرها.

وبالطبع.. فهذه السياسة الجديدة ستترك آثارًا عميقة لا تقتصر على التجارة وحدها، بل تمتد إلى حركة رؤوس الأموال العالمية، وطبيعة التحالفات الدفاعية، ومستقبل المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، أما إذا كانت هذه التحولات ستقود إلى نظام عالمي أكثر توازنًا أو إلى مزيد من التفتت، فالأمر سيعتمد بدرجة كبيرة على الكيفية التي ستستجيب بها القوى الأخرى لمطلب واشنطن بإعادة تعريف العلاقات وفق منطق المقايضة.

وعلى عكس إدارة ترامب الأولى، التي استخدمت التعريفات الجمركية كسلاح تكتيكي في النزاعات الثنائية، يبدو أن “ترامب 2.0” — المتأثرة بشكل كبير بالإطار الاقتصادي الذي وضعه “ميران” — تسعى لإعادة ترتيب منهجية للنظام الاقتصادي العالمي. هذه المرة، لا يقتصر التركيز على معاقبة العجز التجاري أو الضغط على الخصوم، بل يمتد إلى إعادة ضبط شروط التفاعل مع الحلفاء والمنافسين على حد سواء.

و حتى بالنسبة للأسواق الناشئة فلن تشهد نتائج موحدة في ظل العقيدة الاقتصادية المقترحة. فعلى الرغم من أن دولًا مثل المكسيك وفيتنام كانت تُعتبر في السابق من المستفيدين الرئيسيين من فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن كليهما واجه بالفعل تعريفات جمركية أعلى واحتكاكات سياسية — المكسيك بسبب السيارات والفولاذ، وفيتنام بسبب العملة والتحايل التجاري. وحتى كوريا الجنوبية، الحليف القديم للولايات المتحدة والتي تربطها بها علاقات اقتصادية عميقة، قد تتعرض لضغوط لزيادة الإنفاق الدفاعي أو لتتماشى بشكل أكبر مع الأهداف الاستراتيجية الأميركية في منطقة الهندو-باسيفيك.

تُبرز هذه الحالات مبدأً أساسيًا في هذه العقيدة: الوصول إلى السوق الأميركية لم يعد مسألة اقتصادية بحتة — بل أصبح مسألة استراتيجية. وبالنسبة للعديد من الاقتصادات الناشئة، فإن النجاح لن يعتمد فقط على الكفاءة التجارية، بل أيضًا على التوافق الجيوسياسي والمساهمة المتبادلة في النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.

ختاما، فتصريحات ميران الأخيرة في معهد هدسون تكشف عن توجه استراتيجي لإعادة اصطفاف اقتصادي واسع النطاق، فالمسألة لا تتعلق بمجرد نزعة حمائية ضيقة، بل بتحول هيكلي عميق يعيد صياغة دور الولايات المتحدة وشروط قيادتها للعالم، برسالة لا تخلو من وضوح: لقد انتهى زمن الدعم الأميركي غير المشروط، وحان الوقت أمام بقية العالم لاتخاذ القرار.. فإما التكيّف مع الهيكلية الجديدة التي تُرسم الآن وإما المجازفة بالإقصاء، وما إذا كان الشركاء العالميون سيلبّون الدعوة إلى إعادة التفاوض، أو سيختارون طريق القومية الاقتصادية وردود الفعل الانتقامية، هو ما سيحدد ملامح الفصل التالي من تاريخ التجارة العالمية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق تذبذب في سوق مواد البناء.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم 14 أبريل 2025
التالى وزير البترول: زيادة الإنتاج تجعلنا أكثر قدرة على الوفاء باحتياجاتنا من الوقود