بعنوان “المنفى ليس مملكتنا” انطلق نقاش أكاديميين وأدباء ونقّاد من القارّتين الإفريقية والأمريكية في أدب الاغتراب، ينظّم ندوته الدولية، أمس الأربعاء واليوم الخميس، كرسي الآداب والفنون الإفريقية بأكاديمية المملكة المغربية بالعاصمة الرباط، بمقر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب التابع للأكاديمية.
رفض الترحيل
دعت كلمة عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إلى رفض التغيير الجَبري للمسارات والأقدار، بطرق من بينها ترحيل المهاجرين، مدافعا عن أن “كل حياة رؤية”، وعن أن للمنفى أسبابا متعدّدة، وعن أن للإنسان “حق اللقاء بآفاق أخرى ورؤى أخرى، أيا كان السبب”.
المنفى “يغير الأفراد ويسائل معنى الانتماء”، وفق كلمة لحجمري التي قُرئت بالنيابة، وهو “قطيعة تعيد تعريف العلاقة مع العالم، والآخرين، والذات”.
وتطرق لحجمري إلى كتابة المهجر وذاكرة كُتّابها المزدوجة بين أرض الأصل وأرض الاستقبال، وما تنسجه من جسور بين الثقافات، وتصالح بين اللغات، وتحول للفقد من الانغلاق إلى اللقاء، و”طريقة جديدة لعيش العالم، والتفكير والكتابة في أرض بكر، ومساءلة العلاقة مع اللغة والحوار مع الجذور والحاضر”.
واهتم أمين سر أكاديمية المملكة بـ”أبعاد متعددة للمنفى” عبر النصوص، وكيفية إضاءتها الديناميات المعاصرة للهجرة والهوية، ما يجعل هذا اللقاء “فرصة للحوار” حول المنفى الذي هو فرقة ولقاء في الآن ذاته، وتبادل، واكتشاف للآخرة، قبل أن يختم منتقدا “ذاكرة نسيّة” مسّت الكاتب زغلول مرسي، في معجم حديث الصدور.
جامعةٌ للحريّة
مارك براون، رئيس جامعة تاسكيني الأمريكية، تحدث عن قصة منفى إجباري للعبيد الذين رحّلوا من بلدانٍ إفريقية من طرف الإمبريالية الأوروبية، ومنهم من بنى في القرن التاسع عشر الجامعة التي يقودها اليوم، برؤية أن “التعليم طريق الحرية الحقيقية، لا جسديا فقط بل ذهنا وأحاسيس أيضا”.
جريمة الاستعباد البشعة تحدث عنها براون بوصفها “ترحيل الأفارقة، وفعل كل الممكن لتدمير مختلف جوانب إنسانيتهم، ولغاتهم…”.
وتحدث براون عن المؤسس بوكر. تي. واشنطن الذي “دافع بتخطيط إستراتيجي عن المركزية الإفريقية، وتوحيد ذوي الأصول الإفريقية”، من أجل ضرورة للتطور الاقتصادي والاجتماعي، وهو “ما لايزال راهنا، وأنا عاشر رئيس للجامعة”.
الجامعة التي أسّست ست عشرة سنة بعد منع العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية انتبهت إلى “الهيمنة المستمرة ذهنيا وماليا واجتماعيا رغم منع العبودية”، فكان التفكير في ضرورة تأسيسها لـ”تغذية العقل والروح”، وعدم إهمال نصف الساكنة، التي إما أن تُعلّم وترتقي أو تُهمل وتهوي للجرائم، فإما أن تصير مشكلا في النسيج المجتمعي أو يستثمر ذكاؤها في التطور، وهو ما تمّ، ويستمرّ راهنا؛ ما يعني أن “المنفى لم يقتل حرصنا”، وفق المتحدث ذاته.
نصوص المنفى
اهتم الأكاديمي الغابوني وكاتبُ موسوعتَين ومعجمَين غريغوار بيوغو بنصوص المنفى، التي تحكي قصة “الانفصال فجأة مع الأرض الأم”، وسردية الابتعاد عن مصر مثلا، واكتشاف الآخرين، بين الحدود واللغات والاستلهام، والاطلاع على عوالم لم تُتصوّر من قبل، والآلهة المخفية للأمكنة القادمة.
وهكذا كانت في الحركة وعدم الاستقرار “مخيالات، وميثولوجيات أخرى، وابتكارات أخرى للذات”، أنتجت “فرادة غنى كتابات وشِعريات وجغرافيات المنفى (…) صار معها المنفى مملكة مضادة”.
ويرى المتحدث أن المَنافي ترادف “النضج” في قصص الأنبياء والشخصيات ذات الحكمة ومن في حُكمها، فهي “بداية لا تنتهي لفهم الذات والآخرين”، والمنفى “إعادة بداية للحياة”.
الأكاديمي والناقد عضو أكاديمية المملكة المغربية عبد الفتاح كيليطو اهتم بالترجمة بوصفها منفى، محاولا ترجمة أبيات لأبي تمام لم يرضه كيف تحقّق نقله لها من العربية إلى الفرنسية، لأن الشعر الكلاسيكي لم يكن يُقال ليترجم، ولأن الترجمة تفقده معجزة الوزن بتعبير الجاحظ.
وبينما لم يكن أبو تمام ومعاصروه وسابقوهم يفكرون كيف يترجمون أو هل سيترجمون صار شعراء العربية اليوم يستحضرون هذا الأمر، أو ينفتحون على الترجمةِ، المنفى لقولهم من لغته الأصلية.
الأكاديمي السنغالي أبدولاي راسين سنغور تحدث عن تاريخ العالم الذي هو تاريخ الهجرات والمنافي، واهتمام الأدب الدائم بهذا الموضوع، وقصص المنفى الذي تذهب إلى “لا معلومهِ” لتجد الجديد، بالانفصال عن المعيش، كما يمكن أن يكون “عقابا” يصير معه المنفيُّ “ميتا حيا” يفقد الوطن والهوية.
وحول المنفى والذاكرة قدّر المحاضر أن المؤلفات المهتمة بالموضوع اتجاهها هو المستقبل، رغم أن المنفى يترك أثرا، قبل أن يقدّم مثالا عن الترجمة غير الممكنة، في رواية سنغالية تنبغي قراتها في لغتها الأصلية، لأن تراتبات الهويات ولغاتها في تصوّر كاتبها أنتجت نصا ينبغي تعلّم لغة كتابته لقراءته حقا، مثل حالات نصوص في لغات أخرى من بينها العربية.
الأديب والمترجم الكامروني بيلي نيدي دافع عن كون “المنفى وطنيةً” فهو “إرادة وطنية لتوثيق الذاكرة، بجيدها وسيئها وقبيحها”، لتمكين البلاد من رؤية نتوءاتها، والإقبال على ما يمكن أن تكونه، فتتقدم، وهو ما يحدث بعد “أن يحوِّل المنفى الكاتبَ” فيسائل ما ورثه، في سبيل أن تصير أمّته لامعة.
" frameborder="0">