عند التَّأمّل في قصة آلام يسوع المسيح، نجد أنّها لا تعكس صراع القوى قبل ألفي عام فحسب، بل تعكس أيضًا صراع القوى في القرن الحادي والعشرين، فقصة آلالام المسيح تعكس تصرفاتنا البشرية، وتعكس كذلك قوة محبة الله الواحد الأحد للبشرية جمعاء؛ ليخلّصها من نير الخطيَّة، ويحررها من نير العبوديَّة.
نلحظ في قصة الآلام تكاتف أصحاب النفوس والقرار في اتهام المسيح كل حسب أهوائه وحسب انزعاجه من تعاليمه وعجائبه وحياته. فعلى سبيل المثال لا الحصر، اعتبر رئيس الكهنة قيافا أن المسيح يهدد سلطته الدينية،ويهدد السّلام الهشّ مع سلطات الاحتلال الروماني. فقد سطع نجم المسيح في البلاد، وكان هذا بحد ذاته تحدٍ للسّلطات الدّينيّة المؤسسة. فاتهموه بأنه ثائر سياسي،ويدَّعي بأنه ملك اليهود، وهكذا يعارض ولاءه إلى القيصر الروماني؛ ولذا قال قيافا رئيس الكهنة " أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا ( انجيل يوحنا 11: 50 )
وقد استدعاه للمحاكمة والاستجواب الوالي بيلاطس البنطي، الذي كان مسؤولا عن الحفاظ على النظام والسلم الأهلي، كما أنه مسؤول عن فرض القانون الروماني على البلاد المحتلة. استجوب المسيح، ولكنه لم يجد أي سبب لمحاكمته، أو أي حجة لاعتقاله ( انجيل لوقا 23:4). ولكن بسبب الضغط المتصاعد من المؤسسة الدينية واحتجاجات الجموع في الشوارع، وتهديدهم بعد ولائة لقيصر إذا أفرج بيلاطس الوالي عن يسوع البريء، ورضخ لهذه الجموع الثائرة، والتي كانت تصرخ اصلبه، اصلبه. ولم يقف مع الحق والعدالة مع أنه سأل المسيح: "مَا هُوَ الْحَقُّ "( يوحنا ١٨: ٣٨ )، ومع أنه لم يجد علَّة واحدة في المسيح، إلا أنه أسلمه للصلب وغسل بيلاطس البنطي يديه ( انجيل متى ٢٧: ٢٤ )، وأمر بصلبه حفاظا على وظيفته،وحفاظا على مستقبله السياسي. وقد نسأل أحيانا في هذا العيد ألا يتكرر هذا المشهد اليوم في سياسات عالمناالحالي، فكم من الساسة وأصحاب النفوذ والقرار يعرفون تماما المعرفة مثل بيلاطس الحق والعدالة، ولكنهم حفاظا على مستقبلهم السياسي فإنهم إنما يغسلون أيديهم كما فعل بيلاطس البنطي ويبعدون عن الحق، فإما يصمتون أمام صراخ المظلومين والمتألمين والضعفاء، وإما يجدونتبريراتهم السياسية للحروب وشلالات الدماء التي ترهق،والظلم الممنهج في عالمنا؛ ولذلك فقصة الآلام تتحدّى كل من هو في السلطة، أو صاحب نفوذ، أو قرار. فهل تضحون بحياة كل إنسان مهما كان دينه أو عرقه أو جنسه؛ لأنه يعكس صورة الله فيه خوفًا من خسارة مناصبهم، كما فعل بيلاطس البنطي؟
وفي خضم هذه المحاكمة السياسية ضد يسوع المسيح،ففي إجابته على التهم المفبركة ضده صمت المسيح امام الملك هيرودس انتباس، وأجاب باقتضاب عندما حقق معه بيلاطس البنطي، وهكذا فقد أثبت لنا المسيح بأن سلطته غير مبنية على القوة السياسية، ولا على صراع القوة، إنما قوته الروحية هي من الله. ولذا عندما سأله بيلاطس البنطي: "هل أنت ملك؟ " أظهر بوضوح أن ملوكيته هي ليست تحديا للسلطات الرومانية، ولا تحديا للسلطات الدينية، إنما شهادة لمملكة ليست من هذا العالم، وتستمدقوتها من الله وحده؛ لأن مملكة الله هي مملكة الحق والعدالة والسلام. وهكذا، حتى في محاكمته واعتقاله علمنا سيدنا يسوع المسيح عن قيادة جديدة تتحدى صراعات القوى السياسية والحزبية، وتتجلى قوته وعدله في صليبه الأقدس، فلم يخضع المسيح لصراع القوى الأرضي الفاني، إنما قدم نفسه طواعية ( انجيل يوحنا 10: 18) ليخلصنا من الخطية والظلم والقمع، وأي صراع للقوى الأرضية، وأظهر لنا أن سلطانه هو سلطان روحي يحرر الإنسانية، وكل إنسان من نير العبودية والشر، ويعيد للإنسان كرامته للإنسانية التي وهبها الله لكل إنسان. لم يمت المسيح على الصليب ليطهر العالم ويخلصه من الشر والخطية فحسب، إنما مات على الصليب -أيضا- لأن شر القوة في هذا العالم أرادت أن تدمره، وتدمر شهادته الحية للمحبة الحقيقية وللعدالة والسلام والحق واللاعنف والأمان والسعادة، فصلبه على الصليب الأقدس كشف العالم نواياة الشريرة باستخدام القوة والعنف لقمع الحق والعدالة،ولكن المسيح بمحبته حتى لأولئك الذين اتهموه وحكموه وظلموه واضطهدوه وصلبوه، أظهر قوة المحبة المضحية. ولذلك صرخ من أعلى صليبه، وفي قمة ألمه:"يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لايعلمون ماذا يفعلون "( انجيل لوقا 34:23)
لقد ظهرت قوة محبة الله الحقيقية على الصليب، والتي تمكنت أن تحول الظلم والقمع والعداوة إلى عدالة وحرية وصداقة. هذه المحبة التي أظهرها المسيح على صليبه الأقدس، هي وحدها المحبة المختلفة الحقيقية الفادية والتي تعتقنا من نير أي عبودية وأي وقهر، كما وتقوينا لنصمد في إيماننا وشهادتنا -هنا- في أصعب الظروف والأحوال.
إن صليب المسيح هو بالأحرى صليب الحرية والفداء، وهو إشارة واضحة أن المسيح يشترك في آلامنا ويأسنا وقهرنا،وهو يشارك الإنسانية التي هي ضحية صراع القوى؛ لأنه اختبره وضحية الظلم؛ لأنه عاشه وضحية الافتراق؛ لأنه شاهده، ومع ذلك "لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (سفر إشعياء5-3:53.)
وهكذا أصبح المسيح واحدا منا الذي اختبر مرّ العذاب والقمع والاعتقال والاضطهاد والاحتلال والظلم والتشريد،وهكذا أضحى كلّ هؤلاء المعذبين والمقهورين والمقموعين هم أخوته وأخواته الذين من أجلهم مات على الصليب ليخلصهم ويحررهم من كل ما يغيظهم وكما يقول أحد اللاهوتيين: لقد اختبر يسوع القهر والإذلال ليصبح أخا لكل مظلوم ومشرد مقهور وفاقد أمل. ولذلك يكتب كاتب رسالة العبرانيين لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ 16 فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ. (سفر عبرانين ٤: ١٥- ١٦.
في كثير من الأحيان، وأمام الحرب غير المنتهية في غزة والضفة الغربية، وأمام حرب التجويع والإبادة، وفي ظل تجاهل القانون الإنساني الدولي، وفي وقت اختفت الخطوط الحمراء، يصرخ الكثيرون مع المرنم:" إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي. "(مزمور ٢٢: ١-٢ ). يحكى عن القديسة كاترينا من سينيّا التي كانت ناشطة سياسية ومصلحة في إيطاليا في القرن الثالث عشر بأنها صرخت:" يا إلهي ويا ربي، اين انت عندما اختبرت الظلم والقمع؟ "وسمعت صوتا يقول لها:"يا ابنتي،كنت معك طيلة الوقت، وفي قلبك، حتى ولو أنت لم تشعري بذلك " ان الله القادر على كل شيء لن يترك أي مظلوم أو مقهور على المة وصراخة: انة يصغي لاناتقلوبني. ففي عدم حيلتنا في هذا الوقت، وفي عصر صراع القوى والقويّ بقوته، وجب علينا أن ننظر فقط إلى صليبه الأقدس، وأن لا نفقد الرجاء في الله الحي القدير القادر على كل شيء، فطالما إلىهنا هو الة احي فثمة رجاء، وطالما إلهنا هو إله العدالة حي فثمة رجاء، وطالما المسيح بعد صلبة قام من اليوم الثالث وداس الموت بالموت، ووهب الحياة للجميع فثمة رجاء حي حتى وسط الألم والعذابوالجوع والقهر والموت، وهو بقيامته يثبتنا ويقوينا ألا نعتمد على أحد سوى الله الحي رب القيامة، فقيامه المسيح هي ليست ضمانًا لمستقبل الحرية والعدالة والسلام والتحرر فحسب، إنما هي تأكيد بأن رب يسوع القائم من بين الأموات هو وحده يستطيع أن يوقف الحروب، ويرفع الظلم ويشفي القهر، ويمنحنا فجر رجاء القيامة جديد وأمل جديد لكل البشرية؛ لذلك فلنصمد في هذا الإيمان الحي والأكيد. ولننظر الى صليب المسيح ولنصمد في قوة هذهالقيامة ولنرفع أيدينا وقلوبنا بالصلاة إلىى رب القيامة ومرنمين:
أنت من تحيي رجاء في القلوب.... مانحا عفوا إذا كانت تتوب
أنت غفار الخطايا والذنوب...فامح إثمي يا حبيبي يا يسوع
أنت حصني وإليك الملتجا... منك ألقى بالتجائي الفرجا
فأعن ضعفي ووطد بي الرجا... بخلاصي يا حبيبي يا يسوع
والمسيح قام... حقًا قام
والمسيح قام... حقًا قام
والمسيح قام... حقًا قام
وكل عام وأنتم وعائلاتكم بألف خير