شهادةٌ ثقافيةٌ مغربية على مواجهة “الإبداع الفلسطيني سياسات المحو” قدمها الأكاديميان محمد بنيس وعبد الإله بلقزيز، وسيّرها الشاعر ياسين عدنان، ضمن المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، الثلاثاء، في دورته الثلاثين.
وقال ياسين عدنان إن حديثَ اللقاءِ حديثٌ “بوجدان مغربي عام، بوصف فلسطين قضية وطنية، نافح عنها المغاربة بوصفها قضية وطنية أولا، ثم قضية قومية”، مردفا بأن السؤال المطروح في الموعد هو “هل للإبداع تأثير في هذا الهجوم الكبير ليس فقط للجيش الإسرائيلي، بل للسردية الصهيونية المسنودة بالإعلام الغربي المتوحش، والبرمجة الدولية التي تحرص على ألا يتسرب الصوت الفلسطيني ولو كان خافتا، وما حادثة معرض فرانكفورت للكتاب ببعيدة برفض تسليم جائزة لكاتبة فلسطينية استحقتها، وكذلك معركة ‘سوق الشعر’ بباريس التي خاضها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، للالتزام بوعد استضافة فلسطين وشعرائها ضيف شرف؟”.
وتابع عدنان: “كنا كمغاربة فلسطينيين بالفطرة والبداهة، ونحن مصدومون أن معنا في المغرب من يقول ‘كلنا إسرائيليون’ أو ‘تازة قبل غزة’! من قال إن علينا أن نختار!؟ بل نقول تازة، وغزة، وأحفير، ورام الله…”، وختم تدخله في نهاية الموعد الثقافي بـ”عودة إلى البداهة: فلسطين قضية إنسانية، وستظل كذلك في وجداننا كمغاربة”.
“ذاكرة المقاومات”
الشاعر والأكاديمي محمد بنيس، كاتب “فلسطين ذاكرة المقاومات”، قال إن “أكبر مكسب حققه الأدب الفلسطيني والإبداع الفلسطيني بصفة عامة هو الهوية الفلسطينية، لأن أكبر مشكل عاشه الفلسطينيون منذ ظهور الفكرة الصهيونية بداية القرن العشرين أن فلسطين كانت جزءا من الدولة العثمانية، والنخبة الفلسطينية اعتبرت هذه الدولة المصدر الوحيد لمواجهة الصهيونية والدفاع عن الأرض… ومن نماذج ذلك روحي الخالدي، المثقف الكبير الذي كان من النخبة العالية الفلسطينية بحكم معرفته باللغة الفرنسية والأدب الفرنسي ومكانته في الدولة العثمانية، والمؤسسة التشريعية الفلسطينية”.
“هنا جاء هذا دور الأدب، فقد كانت الرواية من أبرز الأنواع التي أبرزت الهوية الفلسطينية، ثم جاءت الفنون التشكيلية، والسينما… كما أن الجيل الجديد من المبدعين الفلسطينيين لعب هذا الدور قبل النكسة مباشرة، مثل: محمود درويش، فدوى طوقان، سميح القاسم، إميل حبيبي، غسان كنفاني الرجل العظيم، وجبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم (…) أعمالهم حية بيننا إلى اليوم، ولا أسميها إرثا”، يردف بنيس.
ثم استرسل المتحدث ذاته: “كانت الدفعة قوية أكثر مع صوت كبير في الميدان الفكري هو إدوارد سعيد، ومحمود درويش شعرا؛ اللَّذان رفعا اسم فلسطين إلى أعالي العالم. وما ميز تلك الفترة أنه كان للحضور الأدبي والإبداعي دور كبير في المقاومة (…) في مرحلة اليسار والمقاومة المسلحة، والمشروع الفلسطيني للتحرر”.
لكن، ما حال اسم فلسطين اليوم والقضية الفلسطينية وإبداع أبنائها؟ يجيب المتدخل: “في ظل الاختراق الذي قام به الفلسطينيون على المستوى العالمي، عبر المقاومة الفلسطينية و’7 أكتوبر’، أصبح اسم فلسطين حاضرا في العالم، بعدما كان يُتصوّر حذف اسم فلسطين نهائيا، في (شركات رقمية كبرى) وفي السياسة الإسرائيلية، وسياسة المتحالفين والمتواطئين… لكن طبعا لإسرائيل سيطرة كبيرة في العالم، إعلاميا وأكاديميا وسياسيا. ولا أتكلم الآن عن الجانب الاقتصادي (…) ولتكن لنا جرأة طرح سؤالٍ: إلى أي حد يمكن لهذه الإبداعية الفلسطينية أن تستمر بالحيوية التي كانت لها ولو بشكل مغاير، لأن الزمن غير الزمن؟ وكيف يمكن لنا في العالم العربي وغيره الانتباه للإبداعية الفلسطينية في علاقة بالقضية لفهمها والتعاطف معها أكثر والوقوف إلى جانب المقاومة لتكون كلمتنا أبعد مما نتخيل؟”.
الشاعر محمد بنيس الذي يشدّد على ضرورة التحلي بـ”صبر كبير، لكنه صبر مقاوم”، يقدّر “أننا نعيش اليوم زمنا آخر، سياسيا وفكريا وإبداعيا، على المستوى العربي والعالمي؛ فلم نعد نعيش في فترة غيفارا والبندقية”، وزاد: “طبعا محمود درويش أول من رفض تعريف الشعر الفلسطيني بالبندقية، وقال إنه أدب مرتبط أولا بشعب وبإنسان، وهو ما لا ينبغي أن ننساه ونتخلى عنه؛ وعلينا بالتالي طرح سؤال: كيف يمكن للشعلة التي كانت استثنائية في تاريخنا الحديث أن تستمر؟ وبأية شروط؟”.
وأردف الأكاديمي نفسه: “لقد أصبحنا نجد في أكثر من مكان منع الخطاب عن فلسطين كيفما كان. وقد كنا، عربيا لا مغربيا فقط، ندرس الشعر والأدب الفلسطينيّين في المدارس، فهل سيصبح هذا الحق مكتسبا؟ وبأية صيغة؟. ومع أنه قبل تاريخ ‘7 أكتوبر’ كنا نخاف أن تغيب القضية الفلسطينية نهائيا عن الخطاب العالمي إلا أن أكبر انتصار للفلسطينيين فيها هو التضامن العظيم المدهش على المستوى العالمي؛ لكنه لا يترافق مع الحركة الإبداعية كما كان في الثمانينيات والسبعينيات، التي كان يترافق فيها الأدب مع الحركة المسلحة”.
وجوابا عن سؤال الأفق يقول بنيس: “الوعي بـ’الطريق الطويل’ لم يكن وعيا رومانسيا عند محمود درويش، الذي كان واعيا بالقضية الفلسطينية والوضعية الثقافية العالمية (…) نحتاج أن نكون إلى جانب الإبداع الفلسطيني فكريا، وفي النشر، والتعريف به… ونحتاج صبرا لتتضح لنا الأشياء. والمهم أن الشعب الفلسطيني شعبُ مقاومة، لن يتخلى عن أرضه، ولن يستسلم على الإطلاق مهما كانت النتائج”.
قضية للإنسانية جمعاء
عاد الأكاديمي عبد الإله بلقزيز إلى نكبة فلسطين عام 1948، قائلا: “بمقدار ما كانت فلسطين في نكبتها عندما سقطت في أيدي المشروع الصهيوني خسارة فادحة لشعب فلسطين والأمة العربية، والإنسانية جمعاء، بقدر ما كانت رأسمال استثنائيا للمجتمع والسياسة والثقافة في الدوائر العربية كافة، وظلت وستستمر سؤالا سياسيا، وسؤالا جوديا، وسؤالا ثقافيا”.
وزاد بلقزيز: “معنى كونها سؤالا سياسيا أن الأغلب الأعم من التحولات السياسية الكبرى التي حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين اقترنت بقضية فلسطين ونكبة الشعب الفلسطيني، ومنها نهوض الحركة القومية العربية، واليسار، واليسار الجديد؛ فكانت رافعة تاريخية لهذا النهوض السياسي العربي. في المقابل الثقافة السياسية العربية خرجت من مختبر فلسطين، ووقع شحذ هذا الخطاب وانتقاء المفردات المناسبة لانتقاء الواقع الموضوعي في علاقة بقضية فلسطين. وفي جبهات الثقافة العربية كافة فلسطين حاضرة، نظريا وإبداعيا، لا كموضوعةٍ (تيمة) بل بحسبانها مرجعية وجودية للتفكير في قضايا الحاضر الإنساني والمجتمعي وما سواه”.
وواصل الأكاديمي ذاته: “الثقافة الفلسطينية كانت ومازالت مرجعية للثقافة العربية بكوكبة من الفنانين والمبدعين، مثل الموسيقيين أوغسطين لاما وصبري الشريف، وحليم الرومي، سليم سحاب، وكوكبة من السينمائيين والتشكيليين، وصولا إلى الكاريكاتور مع ناجي العلي، وكوكبة من الأدباء والمفكرين هم مرجعية في الثقافة العربية، التي نسجت على منوالهم”.
“لكن الثقافة الفلسطينية لم تكن مرجعية لأنها ثقافة مقاومة فقط، ولو أنها اشتبكت مع الواقعة الصهيونية وسياسات المحو، والمسخ، وتبديد الشخصية الوطنية الفلسطينية، وأثبتت وجود الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الوطني التبديدي، بل لأنها استطاعت أن تقترح على القريحة العربية المعاصرة مستويات استثنائية في جمالية التعبير، وكرّستها ثقافة مرجعية داخل الثقافة العربية المعاصرة، ومثال ذلك أن محموداً درويش شاعر كبير لا لأنه عبر عن قضيته بالشعر، بل لأنه أحدث ثورة في لغة الشعر، وكذلك غسان كنفاني الذي يعد مرجعية لأنه أدخل الكتابة الروائية في آفاق جديدة لم تكن مطروقة قبله”، يستدرك المتحدث ذاته، مردفا: “إذن مرجعية الثقافة الفلسطينية مزدوجة لأنها طبيعية تقاوم بالقلم والريشة سياسات المحو الصهيوني، ولأنها تقدم أرفع لحظات التعبير الأدبي والإبداعي للثقافة العربية برمتها”.
وحول الحساسية الصهيونية لسياسيين ومثقفين غربيين قال أستاذ الفلسفة البارز مغربيا وعربيا: “يوجد فلاسفة أفصحوا جهرا عن صهيونيتهم بل حتى يهوديتهم، متنكرين لكل تراثهم التنويري، مثل يورغن هابرماس، وقبله فوكو وسارتر وغيرهم من الذين فضحهم عبد الكبير الخطيبي، بوصفهم مثقفين صهاينة أكثر من الصهيونية نفسها، لكن الغرب لم يتوحد كلية، ولو أن هناك تماهيا بين الثقافي والسياسي إلا أن الغرب متعدد، وفيه حيوية مثل حركات الطلبة المتضامنة مع فلسطين، وهذا طلاق حقيقي بين النخب السياسية والثقافية والجمهور الذي أسقط للأبد سطوة الصهيونية على فكره”.
وتابع المتدخل ذاته: “كما كانت نكبة سنة 1948 مهمازَ الإيقاظ من سبات سادر، عشنا إثره مسلسلا من التحولات الكبرى التي أنتجت حركات التحرر والحركة القومية واليسار، فقد أنتجت ‘7 أكتوبر’ في الغرب هذه التحولات الكبرى”.
وعاد بلقزيز إلى فلسطين وهويتها التي أكدها الإبداع: “لا حديث عن فلسطين من دون تشديد على الماهية الأساس التي يقوم عليها الوجود الفلسطيني: فلسطين عربية، وعروبتها هي الرد القوي على المشروع الاقتلاعي الصهيوني الذي يتساءل عن كيان اسمه فلسطين؛ وعروبتها هي التي تحدّدها في وجهه. وهي عروبة قُدّست لعقود، حتى تطاول المتطاولون عليها كالحشرات، من شقوق تداعي عمراننا السياسي المعاصر… ورغم كون السياسات العربية خانت عروبة فلسطين إلا أن الثقافة العربية متمسكة بها، في السينما، والمسرح، والفن التشكيلي، والمقال السياسي، والأدب، والرواية”.
“أما المشروع الصهيوني الاقتلاعي الهمجي فبعد ثلاثة أجيال من المقاومة المتلاحقة (…) ورغم الإبادة الجماعية، إلا أن فلسطين وضعت خطا دفاعيا في مواجهته: الشخصية الوطنية التي لم يستطع أن يحدث فيها أي تغيير، وظلت مستقلة وثابتة في مواجهة كل سياساته بثقافة كرست لدى الفلسطيني شعور أنه فلسطيني، وأن ماهيته عربية في مواجهة المحو الصهيوني”، يستطرد المتحدث.
وأكّد بلقزيز أن “الثقافة هي التي توجه البندقية، لأنه لا يستطيع كل الشعب أن يكون مشاركا في الثورة”، كما نبه إلى واقع كون “الدولة العبرية الصهيونية إلى اليوم لا ثقافة لها، بل يسرقون كل التراث الفلسطيني: الملبوسات الفلسطينية، والأكل الفلسطيني، والتراث الغنائي والأهازيج الشعبية الفلسطينية (وغيرها)… وهذا نقص قاتل فادح في المشروع الصهيوني، يقابله غنى مفرط في الشخصية الفلسطينية، لأنها من صميم الواقع”.
وختم المفكر المغربي البارز مداخلته بقوله إن “فلسطين نجحت في تحويل قضيتها من قضية وطنية للشعب الفلسطيني، وقضية عربية للمنطقة العربية، إلى قضية إنسانية للإنسانية جمعاء؛ كما أن الأدب الفلسطيني نجح في تكريس نفسه بما هو أدب عالمي”، واليوم “تتحول قضية فلسطين إلى سؤال إنساني، به يتحدد من يؤمن بالإنسان”.