درجنا في عصرنا الراهن على تسارع الأحداث وتعدد المنصات الإعلامية التي تُيسّر التعبير عن الرأي والتنظير له. وفي هذا السياق، أصبحت ردود الأفعال العاطفية على وفاة شخصية بارزة ذات خلفية دينية أو فكرية مختلفة، ساحةً تمطرها سُحب خطاب الكراهية ويحتدم فيها الجدل.
توقير الإنسان حيا وميتا
فما إن يُعلَن عن وفاة شخصية عامة، حتى تكثر المنشورات المثيرة للجدل، وتتزاحم عليها التعليقات، وتتوالى التنظيرات بين التعاطف والشماتة والتأييد والمعارضة. وفي حين يُعد احترام قدسية الموت ردّ الفعل الطبيعي والفطري للإنسان السوي، مهما بلغت درجة الخلاف مع المتوفى، فإننا بتنا نشهد مظاهر فخر وابتهاج على مواقع التواصل الاجتماعي عند نشر أخبار الوفاة.
ولا شكّ أن هذا السلوك يُمثّل انزلاقًا أخلاقيًا وقيميًا خطيرًا، يُفضي إلى تبرير العنف اللفظي تحت غطاء مواقف سياسية أو مفاهيم دينية مغلوطة مُجتزأة من سياقاتها.
إن الاحتفاء بموت شخصٍ ما، مهما تكن خلفيته أو مواقفه، لا يُعد سلوكًا غير إنساني فحسب، بل يشكّل كذلك جزءًا لا يتجزأ من خطاب الكراهية الذي يُغذّي الاستقطاب المجتمعي، ويُكرّس منطق العداء، ويُفسد العلاقات بين مكوّنات التنوع الثقافي في المجتمع.
ومثل هذا الخطاب لا يقتصر أثره على الشخص المتوفى فحسب، بل يتعدّاه إلى الفئة أو التيار أو أصحاب المعتقد الديني الذي ينتسب إليه، ومن ثم يؤثّر سلبًا في المجتمع بأسره، ويُقلّص مساحات الحوار بين مكوّناته، ويُسهم في تعميق الانقسامات، لا سيما عندما يتبنّاه أفراد من أصحاب الحسابات والصفحات الإليكترونية الكبيرة ذات التأثير الإعلامي أو السياسي أو الديني.
وقد شهدنا في السنوات الأخيرة موجاتٍ من الشماتة العلنية الفجّة على وسائل التواصل الاجتماعي، عقب وفاة شخصيات سياسية أو فكرية، سواء في الشرق الأوسط أو في الغرب. وقد تحوّلت مناسبات الوفاة إلى معارك تنظيرية غير أخلاقية على تلك المنصات. معارك تُرهب من يطالعها، لما تحويه من عبارات مرعبة، كانت تُستخدم في السابق في الفن والدراما للتحذير من أصحاب الأفكار الشاذة، كقولهم: "هلك المدعو فلان..."، أو "نفوق المدعو..."، أو "المستراح منه..."، وغيرها من الأوصاف المشينة.
وبلغت الكراهية حدًّا أن يُعلن بعضهم صراحة أنه سيشمت عند وفاة فلان أو علّان، ممن لا يزالون أحياء، في مشهد يتعارض مع قوانين الحياة، ويناقض ثوابت الدين، جازمين بأن فلانًا سيموت قبلهم، وقاطعين الطريق على حكمة "العبرة بالخواتيم"، التي ربما تدفع المختلفَ معه إلى تبني فكر الشامت ذاته، أو العكس.
إن الشماتة في موت الإنسان علامة على التردي الأخلاقي، ومؤشر على غياب ثقافة الاختلاف، ورفض التعدد، وانعدام قبول الآخر. وهي أيضًا دليل على قسوة القلب وسواده، ذلك القلب الذي يُفترض أن يكون الموت أعظم واعظ له، وأشد ما يؤثر فيه.
إن احترام الكرامة الإنسانية لا ينبغي أن يكون مشروطًا بالحياة، ولا بالمواقف، ولا بلغة الفرد أو لونه أو معتقده، بل هو مبدأ أصيل لا يسقط بوفاة صاحبه. وإذا أردنا مجتمعات متماسكة تقوم على الاحترام المتبادل، فعلينا أن نرفض خطاب الشماتة والكراهية، وندينه، ونقاومه، ونعيد الاعتبار للقيم الدينية والأخلاقية ونعمل على ترسيخها، وعلى رأسها قيم الرحمة والاحترام والأخوّة وقبول الآخر، في إطارٍ من التسامح واحترام الإنسان باعتباره أكرم مخلوقات الله.
لا نقول "الحب"، فذاك متعلّق بالقلب، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. إنما نقول "الاحترام"، فلا يُلام الإنسان على حب شخص أو كرهه، ما دام لم يُفْشِ هذا الكره ولم يُترجمه إلى أذى. إنما يُلام حين يُقصّر في احترام الآخر، سواء كان يحبه أو يكرهه.
حفظ الله شبابنا ومجتمعاتنا من كل سوء.
تابع أحدث الأخبار عبر