قال عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن فلسطين “مختبر قاسٍ للفكر الأخلاقي؛ إذ ينهار فيها الخط الفاصل بين الفلسفة والتاريخ، والموقف والضمير. وهي بنية رمزية تشكل اختبارا (…) للعقل المعاصر، وتتحدى المفاهيم المألوفة للسيادة والحدود، وتقوّض السرديات السائدة عن الحداثة والتقدم والعقلانية، فعندما يتحول الإنسان إلى فائض عن الخريطة، وتُختزل الذاكرة في وثائق، وتقايض الكرامة بالشرعية، تتفكك الكلمات التي طالما مجّدها الخطاب الفكري والسياسي منذ عصور الأنوار: العدالة، الحرية، والمساواة”.
جاء هذا خلال لقاء نظمته أكاديمية المملكة، أمس الأربعاء بمقرها بالرباط، لمناقشة أحدث كتب محمد سالم الشرقاوي، المدير المكلف بتسيير وكالة بيت مال القدس، المعنون بـ”جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس الأمانة العظمى”، وذكر لحجمري أن فلسطين ليست تعلقا عاطفيا ولا نصرة سياسية، بل قضيةٌ “تُعلِّم الفكر التواضع، وتذكّره بأن الإنسان حين يجرَّد من حقه في الحلم يفضح كل منظومةٍ تدعي الإنسانية”، وهي “جرحٌ أنطولوجي، يمس جوهر الإنسان ذاته، وحقه في الوجود، دون إذن من التاريخ ولا تفويض من القوة.”
ومع تأكيد أمين سر أكاديمية المملكة أن القدس “قلب العالم النابض، ورمز كرامته التي لا تنطفئ”، ذكر أن علاقة المغاربة بفلسطين ليست مجرّد صلة عاطفية تستدعى في لحظات الأزمة، بل هي “مسار متواصل من الحضور والدعم”، ونصرة القدس “ليست شأنا سياسيا فحسب، بل واجب تاريخي وأخلاقي متجدد، تتوارثه الأجيال باعتباره جزءا من معنى الانتماء للأمة، وشهادة حية على أن الضمير لا يُحتلّ.”
ثم استرسل قائلا: “لقد أثبتت المملكة المغربية بقيادة ملوكها التزامها العميق والمبدئي تجاه القدس، بعيدا عن الظرفيات (…) وهو التزام نابع من وعي تاريخي وديني ووطني لمكانتها في التاريخ الإسلامي والإنساني”.
وزاد: “القضية الفلسطينية، وفي قلبها القدس، من أبرز القضايا التي تستأثر بالضمير الجمعي للأمتين العربية والإسلامية، وهي ذات أبعاد دينية وروحية، تتصل بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، مما يضفي عليها طابعا رمزيا بالغ الأهمية”، كما أنها قضية مشروعية وحقّ للشعب الفلسطيني، وهو ما يجعل “المملكة، ملكا وشعبا، تهتم بشكل متواصل بالقضية الفلسطينية (…) بالتزام تاريخي واضح في مواقف المملكة في المحافل العربية والإسلامية والدولية، للدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومن بينها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”.
علاقة المغاربة بالقدس العابرة للقرون، استحضر منها عبد الجليل لحجمري مغاربة استقروا بها، وأسهموا في عمرانها العلمي والديني والاجتماعي، ومن بين ما يشهد على ذلك “حي المغاربة؛ أحد أبرز الشواهد التاريخية على عمق العلاقة بين المغاربة وفلسطين. تأسس في أعقاب تحرير القدس من الصليبيين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي خصص جزءا من الأراضي المحاذية لحائط البراق للمغاربة المشاركين في المعركة (…) وهو ما توثقه مصادر تاريخية، ووثائق وقفية، مع استمرار في توافد المغاربة القادمين للحج والدراسة”، عبر مئات السنين.
هذا التاريخ ظلّ آهلا لقرون، “إلى حين سنة 1967 حيث قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بعد يوم من احتلال القدس الشرقية، بهدم حي المغاربة، في أحد أكبر معالم استهداف الهوية الإسلامية والعربية للقدس”، لكن رغم محو الحي ماديا، “إلا أن ذاكرته ظلت حية في الوجدان المغربي، وتستعاد في المواقف والكتابات”، حسب أمين سر أكاديمية المملكة.
وفي الوجدان المغربي إلى اليوم تظلّ فلسطين وعاصمتها القدس “رمزا دينيا وتاريخيا جامعا”، وهو ما عبر عنه الملك الحسن الثاني في غير ما مناسبة محدّثا بـ”إيمانه الراسخ بأن قضية القدس لا تحتمل المساومة، وبأن الحفاظ على طابعها العربي الإسلامي مسؤولية جمعية”، مما دفع لتأسيس بيت مال القدس، للحفاظ على القدس من التهويد والتغيير الديموغرافي، وهو ما واصله الملك محمد السادس بـ”رؤية حكيمة، وبمزيد من الفاعلية والعطاء، محافظا على المكتسبات، ومطورا آليات الاشتغال على ملف القدس، بمقاربة خدمة الإنسان المقدسي في حياته اليومية، وتجسيد المفهوم العميق لتضامن الميدان.”